محاولات الصوفية تبرئة ابن عربي والحلاج من القول بوحدة الوجود .. على الرغم من البدع والمنكرات التي تعم السلوك الصوفي في العبادات وعلى...
محاولات الصوفية تبرئة ابن عربي والحلاج من القول بوحدة الوجود ..
على الرغم من البدع والمنكرات التي تعم السلوك الصوفي في العبادات وعلى الرغم من خطورتها على عبادة المسلم إلا أنها اقل بكثير من انحراف آخر اشد خطرا وأعظم ضررا وهو الانحراف العقائدي الذي تتمثل غايته في عقائد الحلول والاتحاد ومن بعدهم بعقيدة وحدة الوجود التي تتنافى تماما مع العقيدة الإسلامية .
وتتلخص فكرة وحدة الوجود عندهم في اعتقادهم أن الله هو الوجود المطلق الذي يظهر بصور الكائنات , فليس هناك في الكون خالق ومخلوق , فكل الموجودات في الكون هي صور متعددة لله سبحانه ظهر فيها وأن الظاهر والباطن في الحقيقة شيء واحد، هو الله تعالى!
وتظهر الخطورة الشديدة والمخالفة الجسيمة لهذه الفكرة الاعتقادية الخارجة على الإسلام في أنها تعتبر أن كل عين موجودة هي بذاتها عين الله سبحانه , وبالتالي فمن عبد المسيح عليه السلام فهو يعبد الله حقيقة وان من يعبد صنما أو حيوانا أو يعبد الشيطان ذاته فهو عابد لله ولا فرق بينهم على الإطلاق وبين المسلمين الذين يعبدون الله لان الكل في نظرهم يعبدون الله في صوره المتعددة , وبالتالي فلا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار وأن عذاب جهنم من عذوبتها وليس من تعذيبها , فيقول قائلهم وشيخهم الأكبر وكبريتهم الأحمر ابن عربي :
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة ** فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبةُ طائف ** وألواحُ توراةٍ ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ** ركائبه فالحب ديني وإيماني
ووحدة الوجود انحراف عقائدي قديم ظهر في العالم قبل ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد ظهرت عند الهندوس وبعض الصينيين واليونانيين والفكرة موجودة في الديانة البوذية وتسمى عندهم "نرفانا" , ومنهم انتقلت إلى الإسلام مع ظهور الصوفية .
وكان أبرز القائلين بها ابن عربي الأندلسي والحلاج حسين بن منصور حيث صرحا بهذه الفكرة كثيرا في كتبهم وكلماتهم المنقولة على ألسنة تلاميذهم
فهل هناك فهم ثان غير فكرة وحدة الوجود يمكن فهمه من قول ابن عربي في فتوحاته ؟:
تبارك الله الذي لم يزل ** يَظْهر فيما قد بدا من صور
فإنه منشئها دائماً في *** كل ما يَظْهر أو قد ظَهَر
وفي أقوال الحلاج وأفعاله التواتر من الشواهد التي تثبت له القول بوحدة الوجود التي دفعت علماء عصره إلى القول بكفره والإفتاء بصلبه , فيقول صاحب الطبقات " كان الحلاج يقول في دعائه: "يا إله الآلهة ويا رب الأرباب، ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم رد إلى نفسي لئلا يفتن بي عبادك، يا من هو أنا، وأنا هو , لا فرق بين إنيتي وهويتك، إلا الحدث والقدم"
ومن أقوال العلماء الأثبات فيهما ما قاله الذهبي في سيره عن الحلاج : "كانت له بداية جيدة وتأله وتصوف ، ثم انسلخ من الدين " .
وقال أبو حيان الأندلسي صاحب التفسير, في سورة المائدة عند قوله تعالى: ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم﴾ : ((ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهراً, وانتمى إلى الصوفية ، حلول الله في الصور الجميلة , وذهب من ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة ، كالحلاج , والشعوذي , وابن أحلى , وابن عربي المقيم بدمشق , وابن الفارض , وأتباع هؤلاء كابن سبعين)). وعد جماعة ثم قال: ((وإنما سردت هؤلاء نصحاً لدين الله وشفقة على ضعفاء المسلمين)) .
ولازال المنتسبون إلى الصوفية قديما وحديثا يحاولون تبرئتهما من هذا القول بشتى السبل فمنها القول بأنهم كانت لهم شطحات يقولونها حال سكرهم – وهو مصطلح صوفي قريب من حال الفناء – فلا يُسئلون عنها , ومنها القول بان لكلماتهم معان قلبية على خلاف ظاهرها كعادة الصوفية في تقسيم الإسلام إلى ظاهر وباطن أو بلفظهم إلى شريعة وحقيقة , ومنها تبرئتهم بالتكلف وبلي عنق الكلمات ومحاولة إيجاد مخرج لهم عنها بأي وسيلة حتى حجة حتى لو كانت واهية تحت دعوى أنهم كانوا من العارفين بالله وأن يستحيل منهم القول بوحدة الوجود .
ولهذا كان من عقلاء وعلماء الصوفية من ينكر عقيدة وحدة الوجود ويكفر قائلها ولكنه يحاول بإحسان الظن المفرط أن يوجد للقائلين بها أي مخرج منها على خلاف التصريح الذي صرحوا به أصحاب القول أنفسهم .
فجاء بعد هذه القرون الطويلة من يحاول إخراجهم من القول بوحدة الوجود بتكلف واضح وبمحاولة مناقشة الكلمات مناقشة فلسفية تخرج بها عن مضمونها المصرح به إلى معان أخرى مضمرة مخالفا بذلك منهج العلماء الذين ناقشوا الحلاج على سبيل المثال واطمئنوا إلى قوله الكفري فحكموا عليه بالكفر والقتل ولو كان له مخرج لحاول هو بنفسه إخراجها عن تهمة الكفر والردة ومن ثم القتل .
ومن هؤلاء العلماء المحدثين شيخ الأزهر الراحل الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود – يرحمه الله – الذي يعلم الكثيرون أنه كان من أكثر من تولوا مشيخة الأزهر علما وحرصا على الشريعة وغيرة عليها وسبق كثيرا ممن قبله ومن بعده علماء وتأثيرا وفضلا – مع التحفظ على اعتقاده في الصوفية التي كان يدافع عنها حتى وفاته – فقد كتب أكثر من نصف كتبه وتراثه الفكري في سير أولياء الصوفية مثنيا عليهم ثناء بالغا رغم وجود الكثير من الانتقادات – الثابتة في كتب الصوفية أنفسهم والمعترف بها تاريخيا - على هذه الشخصيات , لكنه لم يذكرها في كتبه عليهم , فجاءت كتبه فيهم جمعا لمناقبهم فقط من زاوية واحدة لتنقل حياتهم بعين الرضا من محب وليست بعين الباحث التاريخي المتجرد .
ولن أتطرق هنا إلى مناقشة منهج الشيخ عبد الحليم محمود في مسائل بدع العبادات – رغم أنها تنبع من مسائل في العقيدة والتوحيد - حيث يرى الشيخ أنه لابد للأمة أن تتوقف عنها حيث يقول في كتابه "أبو ذر الغفاري والشيوعية" : " إننا شغلنا بالخلافات الفرعية والمماحكات اللفظية وتركنا الأسس وبعدنا عن المجابهة والمجاهدة , فهل آن لنا أن نكف عن الحديث عن زيارة القبور، وعن قراءة سورة الكهف، وعن الكتابة في الجبر والاختيار، وعن حمل المسبحة، وعن شد الرحال وهل يتضمن النهي عن زيارة القبور أو لا يتضمنه " .
وعملا بنصيحة الإمام الأكبر نتجه إلى الحديث عن العقائد بل للعقيدة التي قال العلماء – ومنهم الشيخ عبد الحليم محمود نفسه - بكفر معتقدها والفتوى بصلبه وهي عقيدة وحدة الوجود
وتناول الشيخ عبد الحليم محمود موضوع وحدة الوجود بتفاصيله في مبحث مستقل في كتابه "أبو العباس المرسي " وقدم لموضوعه أنه سيزيل – كما قال – " بصورة غير متوقعة حدة المناقشة في هذا الموضوع " .
فاستحدث الشيخ عبد الحليم محمود مصطلحا جديدا وهو مصطلح " وحدة الموجود " لينقل له كل معاني مصطلح " وحدة الوجود " الذي قال به الصوفية ليفرغ مصطلح وحدة الوجود من معناه ليبرئ ساحة القائلين به من معناه الذي شرحوه في كتبهم وقالوه في كل محافلهم مستترا وظاهرا ولم يسمع منهم إطلاقا مصطلح وحدة الموجود ولم يكن له عندهم أي دلالة بل كان المعنى المقصود في كل أقوالهم منصرفا إلى مصطلح وحدة الوجود بمعناه الوحيد المنقول عنهم .
فقال :" لم يقل أحد من الصوفية الحقيقيين – ومنهم ابن العربي والحلاج – بوحدة الموجود – وما كان للصوفية ، وهم الذروة من المؤمنين أن يقولوا – وحاشاهم – بوحدة الموجود " .
إذن فالمعنى المنقول لوحدة الوجود الذي ذكره الصوفية سماه هو وحدة الموجود ونفاه عنهم وقال أنهم لم يقولوا به واتبع ذلك بقوله "حاشاهم "- فهو معنى مستنكر ومستقبح عنده بل يراه كفريا إذ ينزههم عنها , وبعد ذلك أراد إيجاد مدلول لمصطلح وحدة الوجود المشهور والمنتشر فأتى بمدلول صحيح وشرعي ليسقطه على ذاك المصطلح .
ففسر مصطلح وحدة الوجود تفسيرا خاصا بفهمه وجاء بمعان تتفق عليها الأمة لكنها مخالفة تماما لما صرحوا به في كتبهم فقال عنها " وجود الله المستغني بذاته عن غيره ، وهو الوجود الحق الذي أعطى ومنح الوجود لكل كائن ، وليس لكائن غيره سبحانه . الوجود من نفسه , انه سبحانه الحالق . وهو البارئ المصور ".
وقال :" أرأيت إلى هذه الرمية التي ترميها . إنك ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .. أرأيت إلى الانتصار في الجهاد ؟ إن هذا الانتصار من عند الله ، أما القتلى : " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " .
وانتهى من شرحه لمعان تتفق عليها الأمة فقال " هذه الهيمنة وهذه القيومية يمر بها قوم فلا يعيرونها التفاتا ، إنهم يمرون بها مرور الحيوانات بما تدرك ولا تعقل ، أن الله سبحانه وتعالى لا يحتل من شعورهم درجة أيا كانت ، وهمهم كل همهم مصبحين ممسين ، إنما هو ملء البطن ، أو كنز الذهب والفضة ، أو النزاع على جاه ، أو العمل لتثبيت سلطان . إنهم يمرون بآيات الله فلا يشهدونها ، وتحيط بهم آثاره ، فلا ينظرون إليها ، وتغمرهم نعماؤه وآلاؤه ، فلا يوجههم ذلك إلى الحمد لا الى الشكر . إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل في قلوبهم ولا في تفكيرهم ولا في بيئتهم ، قليلا ولا كسرا . والطرف الآخر المقابل لهذا هو هؤلاء الذي انغمسوا حقا في محيط الإلهية . سبحوا في بحارها ، واستشقوا نسائمها الندية ، وغمهم لألاؤها وضياؤها ؛ لقد بدأوا بحمد الله وشكره على نعماه وآلائه التي تحيط بهم من جميع أقطارهم ، فزادهم نعما وآلاء ".
ومع التقدير البالغ لهذه المعاني الشرعية الصحيحة لتعامل الخلق مع خالقهم سبحانه , إلا أنها لم تكن – إطلاقا - المعاني التي قال بها أصحابها والتي انتشرت في كتبهم وفي فهم اتباعهم بتطبيقهم لها على مر العصور المختلفة , ولو صح هذا الفهم فلماذا قتل الحلاج صلبا بعد حكم علماء الإسلام بزندقته ؟
ولم نتكلف ونتعسف ونذهب إلى محاولة إيجاد مدلول شرعي صحيح لمصطلح فاسد شرحه أصحابه وأظهروا مرادهم منه في آلاف المواضع ؟ فلم يكن في المعنى غموض عن قائليه , فقد يكون ابن العربي في فصوصه وابن الفارض في ديوانه غامضين بعض الشيء إلا أن هناك كتابات واضحة لابن عربي وهي كثيرة جدا كما توجد آلاف الكتابات المنقولة الأخرى عن الحلاج والبسطامي والشبلي والقشيري وغيرهم , فكيف يمكن الجمع بين مدلول المصطلح الذي قال به أصحابه وشرحوه وبين المدلول الجديد التوفيقي الذي أراد الشيخ عبد الحليم محمود أن يفسر به وحدة الوجود ؟
فعند ابن عربي التصريح بالمعنى في أقوال كثيرة منها على سبيل المثال فقط :
" فإن العارف مَنْ يرى الحق في كل شيء ، بل يراه عين كل شيء "
وقوله :
الحق عين الخلق إن كنــت ذا عين ** والخلق عين الحق إن كنت ذا عقل
وإن كنت ذا عين وعقل فمـا ترى ** سوى عين شيء واحد فيه بالكـل "
وقوله " فـلا فـرق بيـن وجوديكما ** فما بان عنك و لا عنـه بنـتَ
وهذه طائفة يسيرة من أقوال الحلاج :
" فالحقيقة ، والحقيقة حقيقة ، دع الخليقة لتكون أنت هو ، أو هو أنت من حيث الحقيقة "
وقوله
رأيت ربـي بعـين قلبـي ** فقلت من أنت ؟ قال أنت
فليس للأين منــك أيـن ** وليـس أينٌ بحـيث أنت
أنت الذي حزت كـل أين ** بنحو لا أين فأين أنت
وليس للوهـم منـك وهم ** فيعلم الأيـن أيـن أنت "
ونتيجة لوضوح كلمات الحلاج واشتمالها على العقيدة الكفرية أراد الشيخ عبد الحليم محمود أن ينفي هذه الكلمات بالكلية عنه فقال : "هذه الكلمات التي يعزونها إلى الحلاج رضوان الله عليه ، أو إلى غيره , لا توجد في كتاب من كتبه ولم يخطها قلمه , لقد اخترعوها اختراعا ثم وضعوها أساسا تدور عليه أحكامهم بالكفر والإضلال , ويكفي أن يتشبث بها إنسان فيكون في منطق البحث غير أهل الثقة " وهذه الدعوى من الشيخ تحتاج إلى دليل فان كانت الكلمات المنقولة يعتذر عنها بأنها مدسوسة على كتبه اليوم فكيف بما نطقه لسانه لحظة الحكم بزندقته , ولِمَ لم يتبرأ منها أو من معانيها ويعلن أنها مدسوسة عليه فالحدود تدرأ بالشبهات ؟
وهكذا تضاف محاولة الدكتور عبد الحليم محمود إلى محاولات الصوفية المتكررة لتبرئة ابن عربي والحلاج وتمريرهم على أنهم من صالحي الأمة وفضلائها , لأنهم رموز الصوفية في كل زمان ومكان , ولو اكتشف الناس مدى انسلاخهم من الشريعة لأيقنوا بتهافت ما عليه المتصوفة ولتيقنوا من أن الصوفية في حقيقتها المخفاة عن الناس - والتي لا يعلمها إلا خواصهم وتستخلص من كتبهم - فاسدة المنشأ باطلة المعتقد , وأولى بالصادقين المخلصين من المنتسبين إليهم والسائرين في ركابهم إعادة النظر فيها , فهي ليست حلقة ذكر وحسن خلق فحسب بل وراءها عقيدة بعيدة كل البعد العقيدة الإسلامية .
وأدعو كل منتسب للصوفية إلى محاولة الاستيثاق بنفسه بقراءة كتب القوم المنتشرة والمليئة بعقيدتهم وخاصة كتب ابن عربي والحلاج وعدم الاكتفاء بما كُتب عنهم فقط من محبيهم والمعتقدين بولايتهم فليست لنا سوى حياة واحدة لا تحتمل التجربة أو الانسياق الأعمى في عقائد فاسدة , فمن كثر سواد قوم فهو منهم .
على الرغم من البدع والمنكرات التي تعم السلوك الصوفي في العبادات وعلى الرغم من خطورتها على عبادة المسلم إلا أنها اقل بكثير من انحراف آخر اشد خطرا وأعظم ضررا وهو الانحراف العقائدي الذي تتمثل غايته في عقائد الحلول والاتحاد ومن بعدهم بعقيدة وحدة الوجود التي تتنافى تماما مع العقيدة الإسلامية .
وتتلخص فكرة وحدة الوجود عندهم في اعتقادهم أن الله هو الوجود المطلق الذي يظهر بصور الكائنات , فليس هناك في الكون خالق ومخلوق , فكل الموجودات في الكون هي صور متعددة لله سبحانه ظهر فيها وأن الظاهر والباطن في الحقيقة شيء واحد، هو الله تعالى!
وتظهر الخطورة الشديدة والمخالفة الجسيمة لهذه الفكرة الاعتقادية الخارجة على الإسلام في أنها تعتبر أن كل عين موجودة هي بذاتها عين الله سبحانه , وبالتالي فمن عبد المسيح عليه السلام فهو يعبد الله حقيقة وان من يعبد صنما أو حيوانا أو يعبد الشيطان ذاته فهو عابد لله ولا فرق بينهم على الإطلاق وبين المسلمين الذين يعبدون الله لان الكل في نظرهم يعبدون الله في صوره المتعددة , وبالتالي فلا حساب ولا عقاب ولا جنة ولا نار وأن عذاب جهنم من عذوبتها وليس من تعذيبها , فيقول قائلهم وشيخهم الأكبر وكبريتهم الأحمر ابن عربي :
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورة ** فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبةُ طائف ** وألواحُ توراةٍ ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ** ركائبه فالحب ديني وإيماني
ووحدة الوجود انحراف عقائدي قديم ظهر في العالم قبل ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد ظهرت عند الهندوس وبعض الصينيين واليونانيين والفكرة موجودة في الديانة البوذية وتسمى عندهم "نرفانا" , ومنهم انتقلت إلى الإسلام مع ظهور الصوفية .
وكان أبرز القائلين بها ابن عربي الأندلسي والحلاج حسين بن منصور حيث صرحا بهذه الفكرة كثيرا في كتبهم وكلماتهم المنقولة على ألسنة تلاميذهم
فهل هناك فهم ثان غير فكرة وحدة الوجود يمكن فهمه من قول ابن عربي في فتوحاته ؟:
تبارك الله الذي لم يزل ** يَظْهر فيما قد بدا من صور
فإنه منشئها دائماً في *** كل ما يَظْهر أو قد ظَهَر
وفي أقوال الحلاج وأفعاله التواتر من الشواهد التي تثبت له القول بوحدة الوجود التي دفعت علماء عصره إلى القول بكفره والإفتاء بصلبه , فيقول صاحب الطبقات " كان الحلاج يقول في دعائه: "يا إله الآلهة ويا رب الأرباب، ويا من لا تأخذه سنة ولا نوم رد إلى نفسي لئلا يفتن بي عبادك، يا من هو أنا، وأنا هو , لا فرق بين إنيتي وهويتك، إلا الحدث والقدم"
ومن أقوال العلماء الأثبات فيهما ما قاله الذهبي في سيره عن الحلاج : "كانت له بداية جيدة وتأله وتصوف ، ثم انسلخ من الدين " .
وقال أبو حيان الأندلسي صاحب التفسير, في سورة المائدة عند قوله تعالى: ﴿لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم﴾ : ((ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهراً, وانتمى إلى الصوفية ، حلول الله في الصور الجميلة , وذهب من ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة ، كالحلاج , والشعوذي , وابن أحلى , وابن عربي المقيم بدمشق , وابن الفارض , وأتباع هؤلاء كابن سبعين)). وعد جماعة ثم قال: ((وإنما سردت هؤلاء نصحاً لدين الله وشفقة على ضعفاء المسلمين)) .
ولازال المنتسبون إلى الصوفية قديما وحديثا يحاولون تبرئتهما من هذا القول بشتى السبل فمنها القول بأنهم كانت لهم شطحات يقولونها حال سكرهم – وهو مصطلح صوفي قريب من حال الفناء – فلا يُسئلون عنها , ومنها القول بان لكلماتهم معان قلبية على خلاف ظاهرها كعادة الصوفية في تقسيم الإسلام إلى ظاهر وباطن أو بلفظهم إلى شريعة وحقيقة , ومنها تبرئتهم بالتكلف وبلي عنق الكلمات ومحاولة إيجاد مخرج لهم عنها بأي وسيلة حتى حجة حتى لو كانت واهية تحت دعوى أنهم كانوا من العارفين بالله وأن يستحيل منهم القول بوحدة الوجود .
ولهذا كان من عقلاء وعلماء الصوفية من ينكر عقيدة وحدة الوجود ويكفر قائلها ولكنه يحاول بإحسان الظن المفرط أن يوجد للقائلين بها أي مخرج منها على خلاف التصريح الذي صرحوا به أصحاب القول أنفسهم .
فجاء بعد هذه القرون الطويلة من يحاول إخراجهم من القول بوحدة الوجود بتكلف واضح وبمحاولة مناقشة الكلمات مناقشة فلسفية تخرج بها عن مضمونها المصرح به إلى معان أخرى مضمرة مخالفا بذلك منهج العلماء الذين ناقشوا الحلاج على سبيل المثال واطمئنوا إلى قوله الكفري فحكموا عليه بالكفر والقتل ولو كان له مخرج لحاول هو بنفسه إخراجها عن تهمة الكفر والردة ومن ثم القتل .
ومن هؤلاء العلماء المحدثين شيخ الأزهر الراحل الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود – يرحمه الله – الذي يعلم الكثيرون أنه كان من أكثر من تولوا مشيخة الأزهر علما وحرصا على الشريعة وغيرة عليها وسبق كثيرا ممن قبله ومن بعده علماء وتأثيرا وفضلا – مع التحفظ على اعتقاده في الصوفية التي كان يدافع عنها حتى وفاته – فقد كتب أكثر من نصف كتبه وتراثه الفكري في سير أولياء الصوفية مثنيا عليهم ثناء بالغا رغم وجود الكثير من الانتقادات – الثابتة في كتب الصوفية أنفسهم والمعترف بها تاريخيا - على هذه الشخصيات , لكنه لم يذكرها في كتبه عليهم , فجاءت كتبه فيهم جمعا لمناقبهم فقط من زاوية واحدة لتنقل حياتهم بعين الرضا من محب وليست بعين الباحث التاريخي المتجرد .
ولن أتطرق هنا إلى مناقشة منهج الشيخ عبد الحليم محمود في مسائل بدع العبادات – رغم أنها تنبع من مسائل في العقيدة والتوحيد - حيث يرى الشيخ أنه لابد للأمة أن تتوقف عنها حيث يقول في كتابه "أبو ذر الغفاري والشيوعية" : " إننا شغلنا بالخلافات الفرعية والمماحكات اللفظية وتركنا الأسس وبعدنا عن المجابهة والمجاهدة , فهل آن لنا أن نكف عن الحديث عن زيارة القبور، وعن قراءة سورة الكهف، وعن الكتابة في الجبر والاختيار، وعن حمل المسبحة، وعن شد الرحال وهل يتضمن النهي عن زيارة القبور أو لا يتضمنه " .
وعملا بنصيحة الإمام الأكبر نتجه إلى الحديث عن العقائد بل للعقيدة التي قال العلماء – ومنهم الشيخ عبد الحليم محمود نفسه - بكفر معتقدها والفتوى بصلبه وهي عقيدة وحدة الوجود
وتناول الشيخ عبد الحليم محمود موضوع وحدة الوجود بتفاصيله في مبحث مستقل في كتابه "أبو العباس المرسي " وقدم لموضوعه أنه سيزيل – كما قال – " بصورة غير متوقعة حدة المناقشة في هذا الموضوع " .
فاستحدث الشيخ عبد الحليم محمود مصطلحا جديدا وهو مصطلح " وحدة الموجود " لينقل له كل معاني مصطلح " وحدة الوجود " الذي قال به الصوفية ليفرغ مصطلح وحدة الوجود من معناه ليبرئ ساحة القائلين به من معناه الذي شرحوه في كتبهم وقالوه في كل محافلهم مستترا وظاهرا ولم يسمع منهم إطلاقا مصطلح وحدة الموجود ولم يكن له عندهم أي دلالة بل كان المعنى المقصود في كل أقوالهم منصرفا إلى مصطلح وحدة الوجود بمعناه الوحيد المنقول عنهم .
فقال :" لم يقل أحد من الصوفية الحقيقيين – ومنهم ابن العربي والحلاج – بوحدة الموجود – وما كان للصوفية ، وهم الذروة من المؤمنين أن يقولوا – وحاشاهم – بوحدة الموجود " .
إذن فالمعنى المنقول لوحدة الوجود الذي ذكره الصوفية سماه هو وحدة الموجود ونفاه عنهم وقال أنهم لم يقولوا به واتبع ذلك بقوله "حاشاهم "- فهو معنى مستنكر ومستقبح عنده بل يراه كفريا إذ ينزههم عنها , وبعد ذلك أراد إيجاد مدلول لمصطلح وحدة الوجود المشهور والمنتشر فأتى بمدلول صحيح وشرعي ليسقطه على ذاك المصطلح .
ففسر مصطلح وحدة الوجود تفسيرا خاصا بفهمه وجاء بمعان تتفق عليها الأمة لكنها مخالفة تماما لما صرحوا به في كتبهم فقال عنها " وجود الله المستغني بذاته عن غيره ، وهو الوجود الحق الذي أعطى ومنح الوجود لكل كائن ، وليس لكائن غيره سبحانه . الوجود من نفسه , انه سبحانه الحالق . وهو البارئ المصور ".
وقال :" أرأيت إلى هذه الرمية التي ترميها . إنك ما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .. أرأيت إلى الانتصار في الجهاد ؟ إن هذا الانتصار من عند الله ، أما القتلى : " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " .
وانتهى من شرحه لمعان تتفق عليها الأمة فقال " هذه الهيمنة وهذه القيومية يمر بها قوم فلا يعيرونها التفاتا ، إنهم يمرون بها مرور الحيوانات بما تدرك ولا تعقل ، أن الله سبحانه وتعالى لا يحتل من شعورهم درجة أيا كانت ، وهمهم كل همهم مصبحين ممسين ، إنما هو ملء البطن ، أو كنز الذهب والفضة ، أو النزاع على جاه ، أو العمل لتثبيت سلطان . إنهم يمرون بآيات الله فلا يشهدونها ، وتحيط بهم آثاره ، فلا ينظرون إليها ، وتغمرهم نعماؤه وآلاؤه ، فلا يوجههم ذلك إلى الحمد لا الى الشكر . إن الله سبحانه وتعالى لا يحتل في قلوبهم ولا في تفكيرهم ولا في بيئتهم ، قليلا ولا كسرا . والطرف الآخر المقابل لهذا هو هؤلاء الذي انغمسوا حقا في محيط الإلهية . سبحوا في بحارها ، واستشقوا نسائمها الندية ، وغمهم لألاؤها وضياؤها ؛ لقد بدأوا بحمد الله وشكره على نعماه وآلائه التي تحيط بهم من جميع أقطارهم ، فزادهم نعما وآلاء ".
ومع التقدير البالغ لهذه المعاني الشرعية الصحيحة لتعامل الخلق مع خالقهم سبحانه , إلا أنها لم تكن – إطلاقا - المعاني التي قال بها أصحابها والتي انتشرت في كتبهم وفي فهم اتباعهم بتطبيقهم لها على مر العصور المختلفة , ولو صح هذا الفهم فلماذا قتل الحلاج صلبا بعد حكم علماء الإسلام بزندقته ؟
ولم نتكلف ونتعسف ونذهب إلى محاولة إيجاد مدلول شرعي صحيح لمصطلح فاسد شرحه أصحابه وأظهروا مرادهم منه في آلاف المواضع ؟ فلم يكن في المعنى غموض عن قائليه , فقد يكون ابن العربي في فصوصه وابن الفارض في ديوانه غامضين بعض الشيء إلا أن هناك كتابات واضحة لابن عربي وهي كثيرة جدا كما توجد آلاف الكتابات المنقولة الأخرى عن الحلاج والبسطامي والشبلي والقشيري وغيرهم , فكيف يمكن الجمع بين مدلول المصطلح الذي قال به أصحابه وشرحوه وبين المدلول الجديد التوفيقي الذي أراد الشيخ عبد الحليم محمود أن يفسر به وحدة الوجود ؟
فعند ابن عربي التصريح بالمعنى في أقوال كثيرة منها على سبيل المثال فقط :
" فإن العارف مَنْ يرى الحق في كل شيء ، بل يراه عين كل شيء "
وقوله :
الحق عين الخلق إن كنــت ذا عين ** والخلق عين الحق إن كنت ذا عقل
وإن كنت ذا عين وعقل فمـا ترى ** سوى عين شيء واحد فيه بالكـل "
وقوله " فـلا فـرق بيـن وجوديكما ** فما بان عنك و لا عنـه بنـتَ
وهذه طائفة يسيرة من أقوال الحلاج :
" فالحقيقة ، والحقيقة حقيقة ، دع الخليقة لتكون أنت هو ، أو هو أنت من حيث الحقيقة "
وقوله
رأيت ربـي بعـين قلبـي ** فقلت من أنت ؟ قال أنت
فليس للأين منــك أيـن ** وليـس أينٌ بحـيث أنت
أنت الذي حزت كـل أين ** بنحو لا أين فأين أنت
وليس للوهـم منـك وهم ** فيعلم الأيـن أيـن أنت "
ونتيجة لوضوح كلمات الحلاج واشتمالها على العقيدة الكفرية أراد الشيخ عبد الحليم محمود أن ينفي هذه الكلمات بالكلية عنه فقال : "هذه الكلمات التي يعزونها إلى الحلاج رضوان الله عليه ، أو إلى غيره , لا توجد في كتاب من كتبه ولم يخطها قلمه , لقد اخترعوها اختراعا ثم وضعوها أساسا تدور عليه أحكامهم بالكفر والإضلال , ويكفي أن يتشبث بها إنسان فيكون في منطق البحث غير أهل الثقة " وهذه الدعوى من الشيخ تحتاج إلى دليل فان كانت الكلمات المنقولة يعتذر عنها بأنها مدسوسة على كتبه اليوم فكيف بما نطقه لسانه لحظة الحكم بزندقته , ولِمَ لم يتبرأ منها أو من معانيها ويعلن أنها مدسوسة عليه فالحدود تدرأ بالشبهات ؟
وهكذا تضاف محاولة الدكتور عبد الحليم محمود إلى محاولات الصوفية المتكررة لتبرئة ابن عربي والحلاج وتمريرهم على أنهم من صالحي الأمة وفضلائها , لأنهم رموز الصوفية في كل زمان ومكان , ولو اكتشف الناس مدى انسلاخهم من الشريعة لأيقنوا بتهافت ما عليه المتصوفة ولتيقنوا من أن الصوفية في حقيقتها المخفاة عن الناس - والتي لا يعلمها إلا خواصهم وتستخلص من كتبهم - فاسدة المنشأ باطلة المعتقد , وأولى بالصادقين المخلصين من المنتسبين إليهم والسائرين في ركابهم إعادة النظر فيها , فهي ليست حلقة ذكر وحسن خلق فحسب بل وراءها عقيدة بعيدة كل البعد العقيدة الإسلامية .
وأدعو كل منتسب للصوفية إلى محاولة الاستيثاق بنفسه بقراءة كتب القوم المنتشرة والمليئة بعقيدتهم وخاصة كتب ابن عربي والحلاج وعدم الاكتفاء بما كُتب عنهم فقط من محبيهم والمعتقدين بولايتهم فليست لنا سوى حياة واحدة لا تحتمل التجربة أو الانسياق الأعمى في عقائد فاسدة , فمن كثر سواد قوم فهو منهم .
ليست هناك تعليقات