أحمد خالد توفيق تلك المقبرة – الحلقة الأولى الاستماع للقصة سوف أحدثك عن مقبرة قريتنا. لا تقل لي إني ابن المدينة، وإن نضارة الريف جفت في عروق...
أحمد خالد توفيق
تلك المقبرة – الحلقة الأولى
الاستماع للقصة
سوف أحدثك عن مقبرة قريتنا.
لا تقل لي إني ابن المدينة، وإن نضارة الريف جفت في عروقي، فالحقيقة هي أنني سأظل ريفيًا إلى الأبد أحمل القرية داخلي. لا تتحرك كثيرًا فهذا يوتر أعصابي .. صدقني ليست قصتي طويلة ولن تثير مللك في الساعة القادمة. كما قلت لك: الريف يحيا داخلي، ولا أستطيع أن أشعر بألفة في المدينة .. أبحث عن متجر البقال البدائي وعن الكُتّاب المتهدم جوار المسجد الذي تتماسك جدرانه بمعجزة ..عن الساقية والترعة. عندما لا أجد هذا كله وأجد بدلاً منه الشوارع والسيارات فإنني أشعر باغتراب مقبض.
سأحدثك عن مقبرة قريتنا.
هناك عند الجهة الغربية من القرية يوجد حزام من أشجار التوت العتيقة، ومنحدر وعر يطل على حقل نصف محروث. تمشي في هذا الممر الطويل محاذرًا أن تتعثر فتسقط.. هنا يجري أمامك كلب أجرب أو قط هزيل، وترى السور المهدم الذي يحيط بالمقابر. لا تنس قراءة الفاتحة للأموات وأنت تمشي بين الشواهد. في الريف يزاولك الشعور بأن هؤلاء موتى .. هذه مساكن قوم يميلون للانطواء وعدم الاختلاط بالآخرين لا أكثر.
ولكن من قال إن الموت يساوي بين الرءوس؟ كل أنواع الطبقية ستجدها هنا بين قبور طينية فقيرة وقبور رخامية متغطرسة وأحواش أقرب إلى القصور! لا توجد مساواة في الموت كما ترى.
بعض الأسماء تعرفه على الفور .. أسرة الدهبي .. أسرة الدمام .. الخ .. وبعض الأسماء مجهول ..
كل مقبرة لها طابع يخصها، لكن المقبرة التي أتكلم عنها هنا فريدة من نوعها. مقبرة فقيرة هي أقرب إلى حجر يعلو كومة من الطين، وبخط طفولي ساذج كتبت آية قرآنية (فيها خطأ لغوي) واسم صاحب القبر: (المرحوم عزت الدرهيبي) الذي يقال إنه توفي عام 1936. لا شك أن القبر لم يُفتح منذ أغلق على عزت، فلا أقارب له في البلدة ولا أولاد. لم يزرع أحدهم بعض الصبار أو يرش الماء على التربة قط .. بالواقع لا يذكر أي واحد حرفًا عن عزت هذا.. لقد وُجد ثم زال فلم يبق منه سوى اسمه ..
على كل حال يوجد احتمال لا بأس به أن المقبرة خالية من الجثث. هناك آثار نبش قوية حولها، وثمة اعتقاد أن بعض اللصوص سرقوا الجثة وباعوها. أنت الآن تفهم كيف بدأ الأمر وأعتقد أنني لم أخبرك بشيء جديد ..
أرجو أن تصغي لي باهتمام ..
الأسطورة الشائعة في القرية هي أن المقبرة مسحورة، وأن التعامل معها يجلب الوبال، لكنهم يعتقدون كذلك أنك لو دفنت فيها مالاً لمدة ليلتين ثم عدت للمقبرة لوجدته قد تضاعف. لا شك أن هناك من جرب هذا، لكن لم تكن هذه التجربة تلاقي إقبالاً على كل حال بسبب الخوف من المقبرة، وكما قال إمام المسجد:
ـ«التعاطي مع الجن له فوائد جمة، لكن له أخطارًا جمة كذلك»
في سن العشرين ذهبت ليلاً إلى المقبرة وبعناية دفنت خمسة جنيهات. ثم فررت وقلبي يتواثب كالطبل .. بعد ليلتين عدت إلى هناك ورحت أحفر الأرض بملعقة معدنية على ضوء الكشاف. وجدت ورقة مطوية بعشرة جنيهات !.. الإشاعة حقيقية إذن!
**************
بعد هذه التجربة بأيام أصبت بوعكة لعينة من التيفويد. كدت أفقد حياتي وأحتاج العلاج إلى شهر كامل، ولم أكن قد أخبرت أحدًا بتجربتي مع المقبرة، لكني قدرت أن سبب المرض هو لعنة الجان على الأرجح .. من يلهُ بالنار يحترق بها، ولابد أنني لهوت أكثر من اللازم.
جاءت أمي بقطعة من الورق قطعتها على شكل دمية، ثم راحت تثقبها بالإبرة وهي تردد بعض الأدعية، ثم وضعتها فوق البخور المشتعل فتفحمت .. قالت لي إن الدمية تمثلني، ويبدو أن هناك عينًا شريرة أصابتني.
كنت أفكر في عشرة الجنيهات القادمة من المقبرة، وأعترف أنني لم أجسر على صرفها قط. طاقة التابوو المحيطة بها جعلتني عاجزًا عن إنفاقها أو حتى لمسها. وضعتها بين دفتي كتاب لا أفتحه إلا نادرًا ..
في سيارة الأجرة المتجهة إلى بنها، مدينة الجن والملائكة بالنسبة لنا نحن القرويين، كنت جالسًا جوار صبري صديقي وهو طالب في كلية الزراعة.
قال لي صبري بلا مناسبة إنه جرب أن يدفن بعض المال في قبر الدرهيبي، وعاد بعد ليلتين ليتفقده ..
جف ريقي وتساءلت في لهفة عما وجده.. قال في خيبة أمل:
ـ«لم أجد المال أصلاً.. هناك من سرقه .. كانت هناك آثار أقدام قرب المقبرة .. هناك مخادع ينشر هذه الأكاذيب ليجمع المال، كما يحدث في تلك الآبار التي يزعمون أنك لو ألقيت فيها مالاً لتحققت أمنيتك. طبعًا ليذهب أحدهم لينزح العملات في قاع البئر بعد هذا.. مقبرة الدرهيبي خدعة وقد كلفتني مائة جنيه».
ابتسمت في عصبية ولم أخبره أن تجربتي أنا قد نجحت ..
لا أعرف التفسير لكنه مخيف على الأرجح، وعلى الأرجح كذلك تضاعف ماله لكن هناك من سرقه قبل أن يعود صبري لموضع المال. قال صبري وهو يرتجف:
ـ«هذا قبر غريب .. هل لاحظت أن الطيور لا تحلق فوقه أبدًا، وأنه لا توجد نباتات من حوله ؟»
قلت في ملل وأنا أراقب الطريق:
ـ«هذا متوقع .. الرجل مقطوع من شجرة ولا يعرف أحد شيئًا عنه ..لا أحد يُعنى بالقبر .. »
ـ«الطيور لا تعرف هذا»
«حيث لا توجد نباتات لا توجد طيور».
يتبع..
تلك المقبرة – الحلقة الثانية
كنت طالبًا في كلية الآداب، وكنا نقيم في شقة رخيصة فقيرة في حي شعبي قريب من الجامعة. طعامنا هو ما نأتي به من القرية أو هو الفول وعلب السردين. كنت أحب مطالعة رواية الأيام لطه حسين؛ لأنها تعطيني بعض الأمل أن هذه البداية قد تقود لنهاية طيبة. كان معنا طالب حقوق وطالب طب ومعظمهم من قريتي..
لم تقع أحداث مهمة طيلة سني الكلية إلا أنني قابلت طالبًا اسمه سيد الدرهيبي. كان هذا اسمًا عجيبًا غير مألوف، وقد أخبرته بأن له قريبًا مدفونًا في قريتنا اسمه عزت الدرهيبي. اندهش جدًا ووعدني بأن يسأل أهله عن هذا الجد، وأعتقد أننا صرنا صديقين حميمين ..
بعد أسبوعين التقينا فكررت سؤالي عن جده غريب الاسم، فقال في عصبية:
«لقد سألت الكبار .. هناك تفاصيل كثيرة، لكن أنصحك أن تنسى هذا الرجل. هناك أشياء إن تبد لكم تسؤكم. من مصلحة الجميع أن ينسوا هذا الرجل، وأبي يذكر القصة بشكل ضبابي، لكنه أوصاني ألا أتعمق في الأمر ..»
تساءلت في فضول:
«أنت أشعلت تطلعاتي ولم تطفئها .. بعد كل هذا الذي قلته لا أحسبني سأفكر في أي شيء غير عزت الدرهيبي وقبره»
قال الفتى وهو يبتعد:
«وأنا أعرف الآن أنه قريبي .. وأنصحك أن تنساه تمامًا إذا أردت الاحتفاظ بصداقتي!»
كان الأمر يفوق قدراتي على التحمل.
انتهت سنوات الدراسة .. أرجو ألا تتحرك كثيرًا فهذا يشتت ذهني فلا أستطيع استكمال القصة. هل ترغب في لفافة تبغ؟. لا بأس … هذا يريح أعصابك قليلاً وإن كان يسبب لي مشكلة. سيكون الأمر عسيرًا.
أقول إن سنوات الدراسة انتهت ووجدت نفسي معلمًا في مدرسة صغيرة في بلدة مجاورة، وقد تمكنت بكثير من الجهد والوساطة أن أعمل في مدرسة ببنها. تعلمت التدخين كما ترى، ومعه تعلمت أشياء كثيرة. الإقامة وحدك في مدينة مع أصدقاء تدفعك لتجربة عدة أشياء .. ليس كلها مستحبًا …
بالإضافة لهذا كنت قد وقعت في حب «مي» المدرسة الحسناء زميلتي في المدرسة، وقد عرضت عليها حبي فلم تبد معترضة. لكنها كانت تنتظر اللحظة التي أتقدم لها طالبًا يدها من أبيها، وكنت أخشى هذه الخطوة جدًا لأنني أدرك أنني مفلس تقريبًا .. لا أحتكم إلا على راتبي. إن مقابلة أبيها براتبي هذا نوع من الإهانة للرجل بلا شك.
في النهاية تشجعت وذهبت لأقابل أباها ومعي أخي الأكبر، وكانت جلسة ناجحة لأنني بذلت الكثير من الوعود المالية .. وعود لا أملك قرشًا منها، وكان أخي ينظر لي في دهشة وحيرة عاجزًا عن الاعتراض .. لا يريد فضائح هاهنا ..
عندما غادرنا الدار بعد قراءة الفاتحة، كان موشكًا على فقدان الوعي وقال لي:
«أنت تورطت وورطتني معك في وعود مستحيلة»
قلت في غموض إنني سأعرف كيف أتصرف ..
لكني في النهاية جربت الاقتراض من كل أصدقائي ومن كل جهة يمكنها أن تقرضني .. لا جدوى هنالك .. لا أحد يعطيك مالاً في هذا العالم .. كنت أشعر باختناق وازددت عصبية.
لابد من طريقة لصنع المال في هذا العالم. هناك السرقة وهناك الميراث وهناك الزواج من حيزبون ثرية وهناك الذهاب للعمل في الخليج.. وكلها خيارات غير متاحة لي. واضح أنني سأعود إلى مي لأخبرها أني عاجز وأطلب منها أن تعتذر لأبيها على ضياع وقته.
على أنني في تلك الليلة نمت مهمومًا، وفي المنام رأيت رجلاً فارع الطول يصعب أن أميز وجهه، وكان يتقدم نحوي عبر مقابر مظلمة يغطي الضباب شواهدها، وكان يمد يده لي. يردد بصوت عميق:
«عد إلى الدرهيبي .. أنت تعرف الجواب».
شعرت بحاجة شديدة إلى أن ألحق به وأمد يدي له. في الوقت نفسه كنت أتهيب اللقاء. عندما صحوت من النوم كنت غارقًا في العرق البارد وشفتاي كانت جافتين كالقش. أمسكت بكوب الماء جوار الفراش وجرعت منه.
سيد الدرهيبي .. يجب أن أجده وأعرف ما يعرفه .. لكن كيف ألقاه ثانية؟ هو ليس من قريتي. على الأقل أعرف أنه مدرس وأنه خريج نفس كلية الآداب. كنا صديقين أيام الكلية كما عرفت، لكن بشرط ألا أذكر سيرة قريبه الغامض.
حان الوقت لإعادة التجربة. أنا ناضج اليوم وأعرف أنها هراء على الأرجح، لكني في ظروف تجعلني أجرب كل شيء.
هكذا عدت لقريتي فقضيت يومًا عاديًا مع الأصدقاء والأقارب .. عندما جاء المساء أخذت الكشاف ومشيت وحدي نحو المقابر. لم يكن من داع للكشاف لأن قمرًا حزينًا باهتًا كان يطل على المكان، ويراقب كل شيء. جواره ذلك النجم الذي يسمونه (أخت القمر). وكانت بعض الذئاب تعوي من بعيد بصوتها الكئيب الباعث للرهبة. أحفظ جيدًا الطريق إلى قبر عزت الدرهيبي الذي ألهب خيالي في الماضي، ولو جئت أنت قريتنا فلسوف تعرفه على الفور من طابعه المخيف وخلو المساحة حوله من أي نبات.
سوف أجرب حظي مرة أخرى. لا تلمني فقد أخبرتك بالمأزق الذي أمر به.
تلك المقبرة – الحلقة الثالثة
على ركبتي جثوت، ورحت أزيل الغبار عن الشاهد الحجري ذي الكتابة البدائية. شخص آخر أشجع مني وأكثر جرأة كان سيجرب نبش هذا القبر ليعرف ما فيه ..
القبر أقرب لكومة من طين ترتفع فوق الأرض.. هناك على اليمين فتحة مسدودة بالملاط واضح أنها التي أدخلوا الجثة منها. لا أنكر أن هناك رائحة عطنة، ومن المستحيل طبعًا أن تكون رائحة الجثة بالداخل، فهي مدفونة منذ نحو تسعين عامًا .. لابد أن حيوانًا قد نفق هنا في وقت قريب.
أخرجت ورقة بمئة جنيه، ولففتها في قطعة من غشاء السلوفين، ثم دفنتها بعناية وأهلت فوقها الغبار. كان قلبي يرتجف، وخطر لي أن أحدهم سيأتي من خلفي ويضع يده على كتفي ليقول شيئًا!… تبًا!. سأخيف نفسي حتى الموت!
لقد نفذت جزئي من الصفقة .. دعنا نرَ ما سيفعله القبر.
نهضت وبخطوات مسرعة وقلبي يثب في فمي مغادرًا الجبانة. كلب أجرب راح ينبح في وجهي، لكني رحبت به كثيرًا .. على الأقل هذا كائن طبيعي من عالمنا …
عندما عدت لداري ونمت كان نومًا كئيبًا يسبح في العرق والكوابيس ..
بعد ليلتين قمت بالمغامرة مرة أخرى. حملت الكشاف وانتظرت حتى تغطى العالم بالليل، وزحفت تحت ذلك الغطاء الكثيف نحو المقابر. مشيت في الممر الضيق الذي يطل على الحقل المحروث، ولعله الارتباك الذي جعلني أتعثر أكثر من مرة ..
في النهاية وصلت إلى المقبرة المرهوبة، فركعت على الأرض ورحت أعبث بحثًا عن الكيس الذي أخفيته أمس .. أين هي؟ ثم شعرت بالسلوفين فقبضت على الشيء وأخرجته. على ضوء الكشاف تأملت اللفافة ثم فتحتها لأجد ورقة بمائتي جنيه!
كان قلبي موشكًا على التوقف من فرط الانفعال. الأمر حقيقي إذن .. ما حدث في صباي لم يكن وهمًا أو مصادفة.
ليكن ما يكون .. ليكن هذا لعبًا مع النار أو لا .. هذا القبر هو سري الخاص ولسوف يحل مشاكلي الخاصة. عدت للبيت حيث نامت الأسرة، فدخلت إلى غرفتي الريفية الواسعة واستلقيت في الفراش أتفحص الورقة ذات المائتي جنيه .. لا غبار عليها .. ليست مزورة ..
لا توجد أي آثار أقدام حول المقبرة .. ليس هناك من يتسلى بي أو يعابثني. وفي النهاية لم يرني أحد وأنا أدفن اللفافة فكيف يأتي بعدها ليبدلها؟
في الصباح ذهبت إلى المدينة .. ذهبت إلى المصرف وسحبت معظم مدخراتي: عشرة آلاف جنيه، ثم ركبت سيارة أجرة متداعية عائدًا إلى قريتي ..
سألتني أمي عن سبب خروجي المتكرر ليلاً فقلت لها إنه الملل لا أكثر .. وعندما جاء المساء خرجت مسلحًا بالكشاف وكيس صغير فيه المبلغ الهائل الذي أملكه. عندما تحمله في يدك تدرك كم هو ضئيل تافه ..
مضيت بين أشجار التوت وبين شواهد القبور الغافية .. وعلى ضوء الكشاف حفرت حفرة أعمق نوعًا في المقبرة، ثم تلفت حولي ودفنت المال.
فلنأمل أن تكون الأسطورة صادقة وألا أكون أحمق شخص في العالم كما أتوقع.
لم أستطع البقاء في القرية ليومين.. كنت متوترًا بحق .. لو نجحت التجربة الجديدة فكل ما علي هو أن أكرر هذا العمل عدة أيام. عشرة آلاف جنيه ستكون نصف مليون بعد مثابرة عدة أيام.
دعني أواصل الحكاية أرجوك وكف عن التململ .. أكره المستمعين نافدي الصبر فعلاً. يستفزونني. أقول إنني قضيت يومين في المدينة. كنت في حالة عصبية أوشك على دفع عقارب الساعة بكتفي لتتحرك ..
هل قلت لك إنني قابلت سيد الدرهيبي بالصدفة؟ وجدته في ميدان المحطة وكان يبتاع جريدة، فهرعت نحوه. لم أبذل جهدًا لتذكيره بي لأنه عرفني على الفور. تعانقنا وسألني عن أحوالي.. قال إنه تزوج ويقيم في القاهرة. إذن لماذا أنت هنا؟ لم يفسر ..
جلسنا على أحد المقاهي وتبادلنا الأحاديث، ثم جاء السؤال الذي أرهقني كل هذه الأعوام:
«للمرة الأخيرة أسألك.. ماذا تعرف عن عزت الدرهيبي؟»
توقعت أن ينصرف غاضبًا، لكنه هذه المرة تردد قليلاً.. سحب الدخان من الشيشة وأطلق سحابة كثيفة، ثم قال:
«كل أسرة لديها وصمة عار، وقد أرغموه على ترك الأسرة والإقامة في قريتكم حيث مات…»
«وما هي وصمة عاره بالضبط؟»
«لا أدري بالضبط .. كان ماجنًا وارتكب الكثير جدًا من الموبقات .. ويقال إنه مارس السحر الأسود. كان لديه كتاب اسمه (شمس المعارف الكبرى) وكان يستعمله ككتاب مقدس يهتدي به..»
بدأ الأمر يتضح لي .. توقعت شيئًا كهذا. فقال سيد:
«أقول لك هذا الكلام للمرة الأخيرة .. في أسرتنا لا يذكرونه بتاتًا ويعتقدون أن سيرته تجلب الشؤم»
شمس المعارف الكبرى!.. الرجل كان يمارس السحر إذن ..لا أعرف خواص مقابر السحرة، لكنها بالتأكيد تختلف عن المقابر العادية التي ندفن نحن فيها ..
افترقنا وأنا أفكر في نقودي العزيزة التي تكمن هناك في قبر منسي مهمل في قريتي. ماذا حدث لها؟
عدت لقريتي بعد يومين وانتظرت حتى جاء الليل، فتسلحت بالكشاف ومشيت في طريقي المعتاد بين أشجار التوت حتى الطريق المتعرج الذي يطل على حقل منحدر. ثم بلغت القبر … مددت يدي في لهفة ورحت أحثو التراب عنه حيث دفنت مالي أمس.
لم يكن هناك شيء!!!
تلك المقبرة – الحلقة الرابعة والأخيرة
الكيس الذي وضعته منذ يومين قد اختفى بمالي الذي يمثل معظم ثروتي. لقد وقعت في الفخ، مثل ضحايا النصابين الذين نقرأ عنهم في الصحف .. لكني كنت أحسبني أكثر ذكاء من ذلك. مدبر هذا الأمر ذكي حقًا أنفق القليل ليجني الكثير.
جلست على الأرض أحك رأسي .. صورة ناطقة بالعجز والحيرة. صوت الكلاب تنبح من بعيد وصرصور الحقل يغازل أنثاه .. لا مخرج أمامي .. لا يوجد من أتهمه حتى لو طلبت الشرطة .. المشكلة مشكلتي ويجب أن أجد حلاً لها.
بدأت تمشيط التربة المحيطة بالقبر بحثًا عن آثار أقدام سارقي.. لم تكن هناك أي آثار وهذا غريب. ثم لاحظت أن هناك أقدامًا مخلبية شبيهة بأقدام الكلاب.. هذه الأقدام تنحدر من شاهد القبر نحو .. نحو الفتحة الموجودة على اليمين في مستوى الأرض وهي الفتحة التي يدخلون الجثة منها. أثار دهشتي أن الفتحة لم تعد مسدودة بالملاط كما كانت .. إنها مفتوحة كأنها جحر ثعلب.
ثعلب أو بنت آوى .. لا أدري .. لكن من المستحيل أن يسرق مالي. الحيوانات أذكى من أن تهتم بأوراق كريهة المذاق مثلنا معشر البشر. ما أعرفه يقينًا هو أن هذا الجحر يحوي لغزًا. كنت أحمل مطواة صغيرة من النوع الذي يُطوى فأخرجتها ورحت بنصلها أحاول أن أوسع الفتحة أكثر فأكثر ..
كانت التربة هشة .. وسرعان ما نجحت في صنع فتحة تكفي لدخول رجل بالغ. رميت بضوء الكشاف داخل القبر وحاولت أن أرى شيئًا .. هنا خطر لي أن هذا القبر أوسع وأكبر مما تخيلت بكثير.
لا تضايقني أرجوك .. قصتي موشكة على الانتهاء. قلت لك إنني تسللت إلى داخل المقبرة وأضأت الكشاف .كانت المقبرة واسعة بحجم غرفة .. أكثر مما تخيلت بكثير.
أدركت أن هناك عددًا من الأنفاق الجانبية في الجدران .. نحو أربعة أنفاق لا أعرف أهميتها ولا قيمتها، ولم أفهم كيف لا تتداعى التربة لتسد هذه الأنفاق. رحت أبحث على ضوء الكشاف عن مالي .. بالفعل وجدت الكيس الذي دفنته .. بيد مرتجفة وعلى ضوء الكشاف فتحته فوجدت نقودي كما هي .. لم تزدد ولم تنقص. السؤال هو: من جاء بها هنا؟
قررت أن الوقت قد حان لكي أعود .. بعد كل شيء أنا في مقبرة تحت الأرض في منتصف الليل. لست من الطراز قوي الأعصاب إلى هذا الحد. لقد استرددت مالي وفيما بعد سأقضي الساعات محاولاً فهم ما حدث: جان .. شياطين .. ثعالب .. شخص يمزح .. أي شيء..
لكني اكتشفت أن الفتحة التي مررت منها قد انسدت .. كيف ومتى؟ لا بأس .. يمكن أن أحفر واحدة أخرى فالتربة هشة هنا. فجأة تحول كل شيء إلى هلاوس مخيفة .. لست واثقًا مما رأيت ولربما أثر المناخ علي. لقد رأيت الجدران تذوب وتتحول إلى كتل من لهب .. كانت أجسادًا مشتعلة تخرج من اللهب وترقص حولي. الجان خلقوا من مارج من نار، فهل هؤلاء جان؟
كانت الأرض تذوب بدورها، وتتحول إلى حمم لكنها غير حارقة .. لم تحترق قدماي. وأمامي رأيت الجدار ينصهر .. ينصهر كاشفًا عن فجوة أقرب لمحراب في الصخر، وعندما دققت النظر أكثر أدركت ان هذه مومياء جالسة .. مومياء رجل فارع الطول مدثر في كفن أبيض. عرفت على الفور من هو.. هذه مومياء عزت الدرهيبي. نفس الرجل الذي كان يطاردني في المنام.
سمعت صوتًا قادمًا من لا مكان يردد:
«عد إلى الدرهيبي .. أنت تعرف الجواب»
ثم أردف ذلك الصوت القادم من لا مكان:
«كنت أنتظر نحو مئة عام حتى يتجاسر أحدهم ويدخل هنا. لقد سئمت الحياة أو بمعنى أصح سئمت الموت.. أن تطاردك لعنة أبدية تحرمك الراحة إلى يوم الدين. تقتات بالجيران الذين تجدهم في القبور وتسرقهم من الأنفاق .. كانت الشياطين تلعب مع الفانين لعبة مضاعفة المال، وخطر لي أن أحدهم سيستبد به الفضول ويدخل هاهنا . أنت أول من تجاسر ودخل، وقد حقت لي الراحة .. حق لي أن أتحلل. انتهت حياتي كغول وبدأت حياتك!»
ورأيت وأنا موشك على فقدان الوعي المومياء تذوب بدورها .. ملامحها تضمحل وتتلاشى … كأنها قطعة فحم مشتعلة تتلاشى جذوتها.. ومن حولي دارت رقصة الشياطين .. وسمعت أغنية مخيفة لم أفهم حرفًا من كلماتها ..وسرعان ما تداعيت وغبت عن العالم.
عندما أفقت كنت خارج المقبرة .. وكان الفجر دانيًا..
عدت لداري وعرفت ما يجب علي القيام به .. عزت كان ميتًا لهذا كان يقتات على الجيف، أما أنا فمن حقي أن أجرب لحمًا طازجًا نضرًا .. لقد تغيرت حياتي بالكامل.
الآن أنت تعرف القصة يا سامي، وتعرف لماذا اصطحبتك للمقبرة ليلاً، وتعرف لماذا أنت مقيد ومكمم الفم جوارها الآن .. لقد انتهت قصتي وحان وقت العمل. لا تحاول الصراخ فلن يسمعك أحد .. سأحاول أن تمر اللحظات القادمة بسرعة.
تمت
لا تقل لي إني ابن المدينة، وإن نضارة الريف جفت في عروقي، فالحقيقة هي أنني سأظل ريفيًا إلى الأبد أحمل القرية داخلي. لا تتحرك كثيرًا فهذا يوتر أعصابي .. صدقني ليست قصتي طويلة ولن تثير مللك في الساعة القادمة. كما قلت لك: الريف يحيا داخلي، ولا أستطيع أن أشعر بألفة في المدينة .. أبحث عن متجر البقال البدائي وعن الكُتّاب المتهدم جوار المسجد الذي تتماسك جدرانه بمعجزة ..عن الساقية والترعة. عندما لا أجد هذا كله وأجد بدلاً منه الشوارع والسيارات فإنني أشعر باغتراب مقبض.
سأحدثك عن مقبرة قريتنا.
هناك عند الجهة الغربية من القرية يوجد حزام من أشجار التوت العتيقة، ومنحدر وعر يطل على حقل نصف محروث. تمشي في هذا الممر الطويل محاذرًا أن تتعثر فتسقط.. هنا يجري أمامك كلب أجرب أو قط هزيل، وترى السور المهدم الذي يحيط بالمقابر. لا تنس قراءة الفاتحة للأموات وأنت تمشي بين الشواهد. في الريف يزاولك الشعور بأن هؤلاء موتى .. هذه مساكن قوم يميلون للانطواء وعدم الاختلاط بالآخرين لا أكثر.
ولكن من قال إن الموت يساوي بين الرءوس؟ كل أنواع الطبقية ستجدها هنا بين قبور طينية فقيرة وقبور رخامية متغطرسة وأحواش أقرب إلى القصور! لا توجد مساواة في الموت كما ترى.
بعض الأسماء تعرفه على الفور .. أسرة الدهبي .. أسرة الدمام .. الخ .. وبعض الأسماء مجهول ..
كل مقبرة لها طابع يخصها، لكن المقبرة التي أتكلم عنها هنا فريدة من نوعها. مقبرة فقيرة هي أقرب إلى حجر يعلو كومة من الطين، وبخط طفولي ساذج كتبت آية قرآنية (فيها خطأ لغوي) واسم صاحب القبر: (المرحوم عزت الدرهيبي) الذي يقال إنه توفي عام 1936. لا شك أن القبر لم يُفتح منذ أغلق على عزت، فلا أقارب له في البلدة ولا أولاد. لم يزرع أحدهم بعض الصبار أو يرش الماء على التربة قط .. بالواقع لا يذكر أي واحد حرفًا عن عزت هذا.. لقد وُجد ثم زال فلم يبق منه سوى اسمه ..
على كل حال يوجد احتمال لا بأس به أن المقبرة خالية من الجثث. هناك آثار نبش قوية حولها، وثمة اعتقاد أن بعض اللصوص سرقوا الجثة وباعوها. أنت الآن تفهم كيف بدأ الأمر وأعتقد أنني لم أخبرك بشيء جديد ..
أرجو أن تصغي لي باهتمام ..
الأسطورة الشائعة في القرية هي أن المقبرة مسحورة، وأن التعامل معها يجلب الوبال، لكنهم يعتقدون كذلك أنك لو دفنت فيها مالاً لمدة ليلتين ثم عدت للمقبرة لوجدته قد تضاعف. لا شك أن هناك من جرب هذا، لكن لم تكن هذه التجربة تلاقي إقبالاً على كل حال بسبب الخوف من المقبرة، وكما قال إمام المسجد:
ـ«التعاطي مع الجن له فوائد جمة، لكن له أخطارًا جمة كذلك»
في سن العشرين ذهبت ليلاً إلى المقبرة وبعناية دفنت خمسة جنيهات. ثم فررت وقلبي يتواثب كالطبل .. بعد ليلتين عدت إلى هناك ورحت أحفر الأرض بملعقة معدنية على ضوء الكشاف. وجدت ورقة مطوية بعشرة جنيهات !.. الإشاعة حقيقية إذن!
**************
بعد هذه التجربة بأيام أصبت بوعكة لعينة من التيفويد. كدت أفقد حياتي وأحتاج العلاج إلى شهر كامل، ولم أكن قد أخبرت أحدًا بتجربتي مع المقبرة، لكني قدرت أن سبب المرض هو لعنة الجان على الأرجح .. من يلهُ بالنار يحترق بها، ولابد أنني لهوت أكثر من اللازم.
جاءت أمي بقطعة من الورق قطعتها على شكل دمية، ثم راحت تثقبها بالإبرة وهي تردد بعض الأدعية، ثم وضعتها فوق البخور المشتعل فتفحمت .. قالت لي إن الدمية تمثلني، ويبدو أن هناك عينًا شريرة أصابتني.
كنت أفكر في عشرة الجنيهات القادمة من المقبرة، وأعترف أنني لم أجسر على صرفها قط. طاقة التابوو المحيطة بها جعلتني عاجزًا عن إنفاقها أو حتى لمسها. وضعتها بين دفتي كتاب لا أفتحه إلا نادرًا ..
في سيارة الأجرة المتجهة إلى بنها، مدينة الجن والملائكة بالنسبة لنا نحن القرويين، كنت جالسًا جوار صبري صديقي وهو طالب في كلية الزراعة.
قال لي صبري بلا مناسبة إنه جرب أن يدفن بعض المال في قبر الدرهيبي، وعاد بعد ليلتين ليتفقده ..
جف ريقي وتساءلت في لهفة عما وجده.. قال في خيبة أمل:
ـ«لم أجد المال أصلاً.. هناك من سرقه .. كانت هناك آثار أقدام قرب المقبرة .. هناك مخادع ينشر هذه الأكاذيب ليجمع المال، كما يحدث في تلك الآبار التي يزعمون أنك لو ألقيت فيها مالاً لتحققت أمنيتك. طبعًا ليذهب أحدهم لينزح العملات في قاع البئر بعد هذا.. مقبرة الدرهيبي خدعة وقد كلفتني مائة جنيه».
ابتسمت في عصبية ولم أخبره أن تجربتي أنا قد نجحت ..
لا أعرف التفسير لكنه مخيف على الأرجح، وعلى الأرجح كذلك تضاعف ماله لكن هناك من سرقه قبل أن يعود صبري لموضع المال. قال صبري وهو يرتجف:
ـ«هذا قبر غريب .. هل لاحظت أن الطيور لا تحلق فوقه أبدًا، وأنه لا توجد نباتات من حوله ؟»
قلت في ملل وأنا أراقب الطريق:
ـ«هذا متوقع .. الرجل مقطوع من شجرة ولا يعرف أحد شيئًا عنه ..لا أحد يُعنى بالقبر .. »
ـ«الطيور لا تعرف هذا»
«حيث لا توجد نباتات لا توجد طيور».
يتبع..
تلك المقبرة – الحلقة الثانية
كنت طالبًا في كلية الآداب، وكنا نقيم في شقة رخيصة فقيرة في حي شعبي قريب من الجامعة. طعامنا هو ما نأتي به من القرية أو هو الفول وعلب السردين. كنت أحب مطالعة رواية الأيام لطه حسين؛ لأنها تعطيني بعض الأمل أن هذه البداية قد تقود لنهاية طيبة. كان معنا طالب حقوق وطالب طب ومعظمهم من قريتي..
لم تقع أحداث مهمة طيلة سني الكلية إلا أنني قابلت طالبًا اسمه سيد الدرهيبي. كان هذا اسمًا عجيبًا غير مألوف، وقد أخبرته بأن له قريبًا مدفونًا في قريتنا اسمه عزت الدرهيبي. اندهش جدًا ووعدني بأن يسأل أهله عن هذا الجد، وأعتقد أننا صرنا صديقين حميمين ..
بعد أسبوعين التقينا فكررت سؤالي عن جده غريب الاسم، فقال في عصبية:
«لقد سألت الكبار .. هناك تفاصيل كثيرة، لكن أنصحك أن تنسى هذا الرجل. هناك أشياء إن تبد لكم تسؤكم. من مصلحة الجميع أن ينسوا هذا الرجل، وأبي يذكر القصة بشكل ضبابي، لكنه أوصاني ألا أتعمق في الأمر ..»
تساءلت في فضول:
«أنت أشعلت تطلعاتي ولم تطفئها .. بعد كل هذا الذي قلته لا أحسبني سأفكر في أي شيء غير عزت الدرهيبي وقبره»
قال الفتى وهو يبتعد:
«وأنا أعرف الآن أنه قريبي .. وأنصحك أن تنساه تمامًا إذا أردت الاحتفاظ بصداقتي!»
كان الأمر يفوق قدراتي على التحمل.
انتهت سنوات الدراسة .. أرجو ألا تتحرك كثيرًا فهذا يشتت ذهني فلا أستطيع استكمال القصة. هل ترغب في لفافة تبغ؟. لا بأس … هذا يريح أعصابك قليلاً وإن كان يسبب لي مشكلة. سيكون الأمر عسيرًا.
أقول إن سنوات الدراسة انتهت ووجدت نفسي معلمًا في مدرسة صغيرة في بلدة مجاورة، وقد تمكنت بكثير من الجهد والوساطة أن أعمل في مدرسة ببنها. تعلمت التدخين كما ترى، ومعه تعلمت أشياء كثيرة. الإقامة وحدك في مدينة مع أصدقاء تدفعك لتجربة عدة أشياء .. ليس كلها مستحبًا …
بالإضافة لهذا كنت قد وقعت في حب «مي» المدرسة الحسناء زميلتي في المدرسة، وقد عرضت عليها حبي فلم تبد معترضة. لكنها كانت تنتظر اللحظة التي أتقدم لها طالبًا يدها من أبيها، وكنت أخشى هذه الخطوة جدًا لأنني أدرك أنني مفلس تقريبًا .. لا أحتكم إلا على راتبي. إن مقابلة أبيها براتبي هذا نوع من الإهانة للرجل بلا شك.
في النهاية تشجعت وذهبت لأقابل أباها ومعي أخي الأكبر، وكانت جلسة ناجحة لأنني بذلت الكثير من الوعود المالية .. وعود لا أملك قرشًا منها، وكان أخي ينظر لي في دهشة وحيرة عاجزًا عن الاعتراض .. لا يريد فضائح هاهنا ..
عندما غادرنا الدار بعد قراءة الفاتحة، كان موشكًا على فقدان الوعي وقال لي:
«أنت تورطت وورطتني معك في وعود مستحيلة»
قلت في غموض إنني سأعرف كيف أتصرف ..
لكني في النهاية جربت الاقتراض من كل أصدقائي ومن كل جهة يمكنها أن تقرضني .. لا جدوى هنالك .. لا أحد يعطيك مالاً في هذا العالم .. كنت أشعر باختناق وازددت عصبية.
لابد من طريقة لصنع المال في هذا العالم. هناك السرقة وهناك الميراث وهناك الزواج من حيزبون ثرية وهناك الذهاب للعمل في الخليج.. وكلها خيارات غير متاحة لي. واضح أنني سأعود إلى مي لأخبرها أني عاجز وأطلب منها أن تعتذر لأبيها على ضياع وقته.
على أنني في تلك الليلة نمت مهمومًا، وفي المنام رأيت رجلاً فارع الطول يصعب أن أميز وجهه، وكان يتقدم نحوي عبر مقابر مظلمة يغطي الضباب شواهدها، وكان يمد يده لي. يردد بصوت عميق:
«عد إلى الدرهيبي .. أنت تعرف الجواب».
شعرت بحاجة شديدة إلى أن ألحق به وأمد يدي له. في الوقت نفسه كنت أتهيب اللقاء. عندما صحوت من النوم كنت غارقًا في العرق البارد وشفتاي كانت جافتين كالقش. أمسكت بكوب الماء جوار الفراش وجرعت منه.
سيد الدرهيبي .. يجب أن أجده وأعرف ما يعرفه .. لكن كيف ألقاه ثانية؟ هو ليس من قريتي. على الأقل أعرف أنه مدرس وأنه خريج نفس كلية الآداب. كنا صديقين أيام الكلية كما عرفت، لكن بشرط ألا أذكر سيرة قريبه الغامض.
حان الوقت لإعادة التجربة. أنا ناضج اليوم وأعرف أنها هراء على الأرجح، لكني في ظروف تجعلني أجرب كل شيء.
هكذا عدت لقريتي فقضيت يومًا عاديًا مع الأصدقاء والأقارب .. عندما جاء المساء أخذت الكشاف ومشيت وحدي نحو المقابر. لم يكن من داع للكشاف لأن قمرًا حزينًا باهتًا كان يطل على المكان، ويراقب كل شيء. جواره ذلك النجم الذي يسمونه (أخت القمر). وكانت بعض الذئاب تعوي من بعيد بصوتها الكئيب الباعث للرهبة. أحفظ جيدًا الطريق إلى قبر عزت الدرهيبي الذي ألهب خيالي في الماضي، ولو جئت أنت قريتنا فلسوف تعرفه على الفور من طابعه المخيف وخلو المساحة حوله من أي نبات.
سوف أجرب حظي مرة أخرى. لا تلمني فقد أخبرتك بالمأزق الذي أمر به.
تلك المقبرة – الحلقة الثالثة
على ركبتي جثوت، ورحت أزيل الغبار عن الشاهد الحجري ذي الكتابة البدائية. شخص آخر أشجع مني وأكثر جرأة كان سيجرب نبش هذا القبر ليعرف ما فيه ..
القبر أقرب لكومة من طين ترتفع فوق الأرض.. هناك على اليمين فتحة مسدودة بالملاط واضح أنها التي أدخلوا الجثة منها. لا أنكر أن هناك رائحة عطنة، ومن المستحيل طبعًا أن تكون رائحة الجثة بالداخل، فهي مدفونة منذ نحو تسعين عامًا .. لابد أن حيوانًا قد نفق هنا في وقت قريب.
أخرجت ورقة بمئة جنيه، ولففتها في قطعة من غشاء السلوفين، ثم دفنتها بعناية وأهلت فوقها الغبار. كان قلبي يرتجف، وخطر لي أن أحدهم سيأتي من خلفي ويضع يده على كتفي ليقول شيئًا!… تبًا!. سأخيف نفسي حتى الموت!
لقد نفذت جزئي من الصفقة .. دعنا نرَ ما سيفعله القبر.
نهضت وبخطوات مسرعة وقلبي يثب في فمي مغادرًا الجبانة. كلب أجرب راح ينبح في وجهي، لكني رحبت به كثيرًا .. على الأقل هذا كائن طبيعي من عالمنا …
عندما عدت لداري ونمت كان نومًا كئيبًا يسبح في العرق والكوابيس ..
بعد ليلتين قمت بالمغامرة مرة أخرى. حملت الكشاف وانتظرت حتى تغطى العالم بالليل، وزحفت تحت ذلك الغطاء الكثيف نحو المقابر. مشيت في الممر الضيق الذي يطل على الحقل المحروث، ولعله الارتباك الذي جعلني أتعثر أكثر من مرة ..
في النهاية وصلت إلى المقبرة المرهوبة، فركعت على الأرض ورحت أعبث بحثًا عن الكيس الذي أخفيته أمس .. أين هي؟ ثم شعرت بالسلوفين فقبضت على الشيء وأخرجته. على ضوء الكشاف تأملت اللفافة ثم فتحتها لأجد ورقة بمائتي جنيه!
كان قلبي موشكًا على التوقف من فرط الانفعال. الأمر حقيقي إذن .. ما حدث في صباي لم يكن وهمًا أو مصادفة.
ليكن ما يكون .. ليكن هذا لعبًا مع النار أو لا .. هذا القبر هو سري الخاص ولسوف يحل مشاكلي الخاصة. عدت للبيت حيث نامت الأسرة، فدخلت إلى غرفتي الريفية الواسعة واستلقيت في الفراش أتفحص الورقة ذات المائتي جنيه .. لا غبار عليها .. ليست مزورة ..
لا توجد أي آثار أقدام حول المقبرة .. ليس هناك من يتسلى بي أو يعابثني. وفي النهاية لم يرني أحد وأنا أدفن اللفافة فكيف يأتي بعدها ليبدلها؟
في الصباح ذهبت إلى المدينة .. ذهبت إلى المصرف وسحبت معظم مدخراتي: عشرة آلاف جنيه، ثم ركبت سيارة أجرة متداعية عائدًا إلى قريتي ..
سألتني أمي عن سبب خروجي المتكرر ليلاً فقلت لها إنه الملل لا أكثر .. وعندما جاء المساء خرجت مسلحًا بالكشاف وكيس صغير فيه المبلغ الهائل الذي أملكه. عندما تحمله في يدك تدرك كم هو ضئيل تافه ..
مضيت بين أشجار التوت وبين شواهد القبور الغافية .. وعلى ضوء الكشاف حفرت حفرة أعمق نوعًا في المقبرة، ثم تلفت حولي ودفنت المال.
فلنأمل أن تكون الأسطورة صادقة وألا أكون أحمق شخص في العالم كما أتوقع.
لم أستطع البقاء في القرية ليومين.. كنت متوترًا بحق .. لو نجحت التجربة الجديدة فكل ما علي هو أن أكرر هذا العمل عدة أيام. عشرة آلاف جنيه ستكون نصف مليون بعد مثابرة عدة أيام.
دعني أواصل الحكاية أرجوك وكف عن التململ .. أكره المستمعين نافدي الصبر فعلاً. يستفزونني. أقول إنني قضيت يومين في المدينة. كنت في حالة عصبية أوشك على دفع عقارب الساعة بكتفي لتتحرك ..
هل قلت لك إنني قابلت سيد الدرهيبي بالصدفة؟ وجدته في ميدان المحطة وكان يبتاع جريدة، فهرعت نحوه. لم أبذل جهدًا لتذكيره بي لأنه عرفني على الفور. تعانقنا وسألني عن أحوالي.. قال إنه تزوج ويقيم في القاهرة. إذن لماذا أنت هنا؟ لم يفسر ..
جلسنا على أحد المقاهي وتبادلنا الأحاديث، ثم جاء السؤال الذي أرهقني كل هذه الأعوام:
«للمرة الأخيرة أسألك.. ماذا تعرف عن عزت الدرهيبي؟»
توقعت أن ينصرف غاضبًا، لكنه هذه المرة تردد قليلاً.. سحب الدخان من الشيشة وأطلق سحابة كثيفة، ثم قال:
«كل أسرة لديها وصمة عار، وقد أرغموه على ترك الأسرة والإقامة في قريتكم حيث مات…»
«وما هي وصمة عاره بالضبط؟»
«لا أدري بالضبط .. كان ماجنًا وارتكب الكثير جدًا من الموبقات .. ويقال إنه مارس السحر الأسود. كان لديه كتاب اسمه (شمس المعارف الكبرى) وكان يستعمله ككتاب مقدس يهتدي به..»
بدأ الأمر يتضح لي .. توقعت شيئًا كهذا. فقال سيد:
«أقول لك هذا الكلام للمرة الأخيرة .. في أسرتنا لا يذكرونه بتاتًا ويعتقدون أن سيرته تجلب الشؤم»
شمس المعارف الكبرى!.. الرجل كان يمارس السحر إذن ..لا أعرف خواص مقابر السحرة، لكنها بالتأكيد تختلف عن المقابر العادية التي ندفن نحن فيها ..
افترقنا وأنا أفكر في نقودي العزيزة التي تكمن هناك في قبر منسي مهمل في قريتي. ماذا حدث لها؟
عدت لقريتي بعد يومين وانتظرت حتى جاء الليل، فتسلحت بالكشاف ومشيت في طريقي المعتاد بين أشجار التوت حتى الطريق المتعرج الذي يطل على حقل منحدر. ثم بلغت القبر … مددت يدي في لهفة ورحت أحثو التراب عنه حيث دفنت مالي أمس.
لم يكن هناك شيء!!!
تلك المقبرة – الحلقة الرابعة والأخيرة
الكيس الذي وضعته منذ يومين قد اختفى بمالي الذي يمثل معظم ثروتي. لقد وقعت في الفخ، مثل ضحايا النصابين الذين نقرأ عنهم في الصحف .. لكني كنت أحسبني أكثر ذكاء من ذلك. مدبر هذا الأمر ذكي حقًا أنفق القليل ليجني الكثير.
جلست على الأرض أحك رأسي .. صورة ناطقة بالعجز والحيرة. صوت الكلاب تنبح من بعيد وصرصور الحقل يغازل أنثاه .. لا مخرج أمامي .. لا يوجد من أتهمه حتى لو طلبت الشرطة .. المشكلة مشكلتي ويجب أن أجد حلاً لها.
بدأت تمشيط التربة المحيطة بالقبر بحثًا عن آثار أقدام سارقي.. لم تكن هناك أي آثار وهذا غريب. ثم لاحظت أن هناك أقدامًا مخلبية شبيهة بأقدام الكلاب.. هذه الأقدام تنحدر من شاهد القبر نحو .. نحو الفتحة الموجودة على اليمين في مستوى الأرض وهي الفتحة التي يدخلون الجثة منها. أثار دهشتي أن الفتحة لم تعد مسدودة بالملاط كما كانت .. إنها مفتوحة كأنها جحر ثعلب.
ثعلب أو بنت آوى .. لا أدري .. لكن من المستحيل أن يسرق مالي. الحيوانات أذكى من أن تهتم بأوراق كريهة المذاق مثلنا معشر البشر. ما أعرفه يقينًا هو أن هذا الجحر يحوي لغزًا. كنت أحمل مطواة صغيرة من النوع الذي يُطوى فأخرجتها ورحت بنصلها أحاول أن أوسع الفتحة أكثر فأكثر ..
كانت التربة هشة .. وسرعان ما نجحت في صنع فتحة تكفي لدخول رجل بالغ. رميت بضوء الكشاف داخل القبر وحاولت أن أرى شيئًا .. هنا خطر لي أن هذا القبر أوسع وأكبر مما تخيلت بكثير.
لا تضايقني أرجوك .. قصتي موشكة على الانتهاء. قلت لك إنني تسللت إلى داخل المقبرة وأضأت الكشاف .كانت المقبرة واسعة بحجم غرفة .. أكثر مما تخيلت بكثير.
أدركت أن هناك عددًا من الأنفاق الجانبية في الجدران .. نحو أربعة أنفاق لا أعرف أهميتها ولا قيمتها، ولم أفهم كيف لا تتداعى التربة لتسد هذه الأنفاق. رحت أبحث على ضوء الكشاف عن مالي .. بالفعل وجدت الكيس الذي دفنته .. بيد مرتجفة وعلى ضوء الكشاف فتحته فوجدت نقودي كما هي .. لم تزدد ولم تنقص. السؤال هو: من جاء بها هنا؟
قررت أن الوقت قد حان لكي أعود .. بعد كل شيء أنا في مقبرة تحت الأرض في منتصف الليل. لست من الطراز قوي الأعصاب إلى هذا الحد. لقد استرددت مالي وفيما بعد سأقضي الساعات محاولاً فهم ما حدث: جان .. شياطين .. ثعالب .. شخص يمزح .. أي شيء..
لكني اكتشفت أن الفتحة التي مررت منها قد انسدت .. كيف ومتى؟ لا بأس .. يمكن أن أحفر واحدة أخرى فالتربة هشة هنا. فجأة تحول كل شيء إلى هلاوس مخيفة .. لست واثقًا مما رأيت ولربما أثر المناخ علي. لقد رأيت الجدران تذوب وتتحول إلى كتل من لهب .. كانت أجسادًا مشتعلة تخرج من اللهب وترقص حولي. الجان خلقوا من مارج من نار، فهل هؤلاء جان؟
كانت الأرض تذوب بدورها، وتتحول إلى حمم لكنها غير حارقة .. لم تحترق قدماي. وأمامي رأيت الجدار ينصهر .. ينصهر كاشفًا عن فجوة أقرب لمحراب في الصخر، وعندما دققت النظر أكثر أدركت ان هذه مومياء جالسة .. مومياء رجل فارع الطول مدثر في كفن أبيض. عرفت على الفور من هو.. هذه مومياء عزت الدرهيبي. نفس الرجل الذي كان يطاردني في المنام.
سمعت صوتًا قادمًا من لا مكان يردد:
«عد إلى الدرهيبي .. أنت تعرف الجواب»
ثم أردف ذلك الصوت القادم من لا مكان:
«كنت أنتظر نحو مئة عام حتى يتجاسر أحدهم ويدخل هنا. لقد سئمت الحياة أو بمعنى أصح سئمت الموت.. أن تطاردك لعنة أبدية تحرمك الراحة إلى يوم الدين. تقتات بالجيران الذين تجدهم في القبور وتسرقهم من الأنفاق .. كانت الشياطين تلعب مع الفانين لعبة مضاعفة المال، وخطر لي أن أحدهم سيستبد به الفضول ويدخل هاهنا . أنت أول من تجاسر ودخل، وقد حقت لي الراحة .. حق لي أن أتحلل. انتهت حياتي كغول وبدأت حياتك!»
ورأيت وأنا موشك على فقدان الوعي المومياء تذوب بدورها .. ملامحها تضمحل وتتلاشى … كأنها قطعة فحم مشتعلة تتلاشى جذوتها.. ومن حولي دارت رقصة الشياطين .. وسمعت أغنية مخيفة لم أفهم حرفًا من كلماتها ..وسرعان ما تداعيت وغبت عن العالم.
عندما أفقت كنت خارج المقبرة .. وكان الفجر دانيًا..
عدت لداري وعرفت ما يجب علي القيام به .. عزت كان ميتًا لهذا كان يقتات على الجيف، أما أنا فمن حقي أن أجرب لحمًا طازجًا نضرًا .. لقد تغيرت حياتي بالكامل.
الآن أنت تعرف القصة يا سامي، وتعرف لماذا اصطحبتك للمقبرة ليلاً، وتعرف لماذا أنت مقيد ومكمم الفم جوارها الآن .. لقد انتهت قصتي وحان وقت العمل. لا تحاول الصراخ فلن يسمعك أحد .. سأحاول أن تمر اللحظات القادمة بسرعة.
تمت
ليست هناك تعليقات